عندما يُغتال الطموح

 

 

 

د. محمد بن ربيع بن عبدالله التوبي **

تحكي كتب التاريخ أن الخليفة عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- لما تولّى الخلافة، استقبل الوفود المهنئة من أرجاء الدولة. وكان في وفد الحجاز غلامٌ صغير السن من بني هاشم، فلما تقدّم ليتحدث نيابة عن قومه، قال له عمر: «لْيقم من هو أسنّ منك، فليتكلّم».

فأجابه الغلام بثقةٍ العالم وفصاحةِ الواعين:

"يا أمير المؤمنين، إنما المرءُ بأصغريه: قلبه ولسانه؛ فإذا منح الله عبدًا لسانًا لافظًا، وقلبًا حافظًا، فقد استحق الكلام. ولو أن الأمر بالسنّ، لكان في الأمة من هو أحقّ بمجلسك هذا منك!"

فأُعجب عمر بن عبد العزيز بجوابه، وقال له: «صدقت، تكلّم يا غلام»، فتكلم فأحسن.

تلك القصة لا تُروى لمجرد الإعجاب بذكاء غلامٍ صغير، بل لتُذكّرنا أن السنّ لا يقيس الكفاءة، وأن الطموح لا يُختزل في عدد السنين، بل في حرارة القلب وصفاء النية وقوة العزم.

لقد وُلد في الأمة منذ فجر الإسلام إيمانٌ عميقٌ بقدرات الشباب، إيمانٌ يرى فيهم طاقة لا يُستهان بها، وعقولًا تستحق أن تُصغي إليها القيادة. ولهذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يولّي أسامة بن زيد قيادة جيشٍ فيه كبار الصحابة وهو لم يتجاوز العشرين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ في صغره نقصًا، بل رأى فيه عزيمةً وذكاءً وإيمانًا لا يلين.

وها هو مصعب بن عمير يخرج سفيرًا للإسلام إلى المدينة المنورة وهو شابٌّ غضّ السن، فينشر النور قبل أن تطأها أقدام المهاجرين.

وكذلك محمد الفاتح، الذي فتح القسطنطينية وعمره اثنان وعشرون عامًا، فصار مثالًا خالدًا لشبابٍ حمل الحلم وحقّقه.

شَبابُ الأمةِ الأرواحُ فيها

تُضيءُ إذا سعى فيها الشبابُ

إذا نامتْ عقولُ الكاسلينَ

ففي أيدي الشبابِ يكونُ بابُ

إنّ الأمم لا تنهض إلا حين تُؤمن بقدرات شبابها، وتمنحهم الفرصة ليثبتوا ذواتهم، لكن حين تُهمل أصواتهم، وتُغلق أمامهم الأبواب، يُغتال الطموح في صمت، وتتحول الهمم العالية إلى رماد، وهنا تكمن المأساة الكبرى: أن تُطفأ شعلة الإبداع قبل أن تضيء الطريق.

إذا غامرتَ في شرفٍ مرومٍ

فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ

فطَعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ

كطَعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ

لقد كان الغلام الهاشمي الذي تجرأ بالكلمة أمام الخليفة نموذجًا للشباب الواعي، الذي يملك الثقة والحجة مع الأدب والاتزان، ولو أن عمر بن عبد العزيز أغلق فمه بحجة صغره، لربما خسر الإسلام أحد الأصوات التي تحمل فكرًا ناضجًا مبكرًا، وهكذا، كل أمةٍ تُسكت شبابها، إنما تُسكت مستقبلها.

وما نيلُ المطالبِ بالتمنّي

ولكن تُؤخذُ الدنيا غِلابا

وما استعصى على قومٍ منالٌ

إذا الإقدامُ كان لهم ركابا

أيها القادة والمربّون، إنّ الاستثمار في الشباب ليس شعارًا يُرفع، بل هو واجبٌ يُمارس؛ فامنحوهم الثقة، واتركوا لهم مساحات التجربة، ودعوا أخطاءهم تُصبح جسورًا نحو النضج لا قيودًا نحو الخوف.

ويا شباب الأمة، لا تجعلوا من صغر سنّكم قيدًا على أحلامكم، فكم من صغيرٍ سبق الكبار، وكم من شابٍّ غيّر مجرى التاريخ بإيمانه ويقينه.

إذا الشّعبُ يومًا أرادَ الحياةَ

فلا بُدّ أن يستجيبَ القدرْ

ولا بُدّ لليلِ أن ينجلي

ولا بُدّ للقيدِ أن ينكسرْ

فلنحافظ على جذوة الطموح متّقدة في قلوب أبنائنا، قبل أن تُغتال بيد الإحباط والبيروقراطية والشك.

فحين يُغتال الطموح، تموت الأمة وهي لا تزال على قيد الحياة، وحين نُؤمن بالشباب، تُبعث الحياة في أوصالها من جديد.

** أستاذ مساعد تقنيات التعليم بجامعة الشرقية

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة